عودة روح القرن التاسع عشر- هزيمة العرب واستباحة فلسطين

المؤلف: أنور الهواري11.09.2025
عودة روح القرن التاسع عشر- هزيمة العرب واستباحة فلسطين

القرن التاسع عشر يمثل روح الهزيمة، سواء كانت نفسية أو مادية، أمام الغرب وقوته القاهرة وحضارته المتفوقة. هذه الروح تعود اليوم لتطل برأسها، مستندة إلى التفوق والعدوان الذي تمثله إسرائيل في المنطقة.

الغزو الفرنسي لمصر كان إيذانًا ببدء القرن التاسع عشر، تلته موجة من الغزوات الأوروبية التي اجتاحت العالم الإسلامي، لتصل ذروتها مع تأسيس الحركة الصهيونية.

بين الغزوة الفرنسية عام 1798م والمؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م، تمتد فترة مائة عام بالتمام والكمال، هذه الحقبة الزمنية كانت بمثابة حجر الزاوية في تكوين وتشكيل الشرق الأوسط المعاصر. ثم، بين المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م وصدور وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، الذي بشر بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، عشرون عامًا أخرى. ومرة أخرى، بين وعد بلفور عام 1917م وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام 1947م، تتوالى العشرون عامًا. وبين هزيمة العرب أمام العصابات الصهيونية عام 1948م، ثم هزيمتهم النكراء مرة أخرى عام 1967م، عشرون عامًا أخرى تحل علينا بالويلات.

حروب بلا خطط

وبالنظر إلى الفترة الفاصلة بين وعد بلفور في نوفمبر/تشرين الثاني 1917م وزيارة الرئيس السادات المفاجئة للقدس في التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1977م، نجد سبعين عامًا بالتمام. أما الفترة بين آخر حروب العرب الكبرى في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973م وآخر أيام المقاومة الباسلة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، فهي تمتد لخمسين عامًا، قادت خلالها العرب في مسار مخالف تمامًا للمسار الذي سلكوه في الثلاثين عامًا التي تلت حرب 1948م وسبقت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م. وهذا يستدعي منا التوقف والتأمل في عدة ملاحظات جوهرية:

1- حروب العرب مع إسرائيل استمرت لثلاثة عقود، بدأوها عام 1948م وهم ما زالوا تحت نير الاستعمار وبتحريض سافر منه. الإنجليز سعوا جاهدين لخلق نوع من التوازن الزائف بين القوتين العربية واليهودية، ثم سعوا للحد من جماح عنف اليهود، وأخيرًا سعوا للحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية وصورتهم المهتزة في الشرق الأوسط.

دخلت الجيوش العربية تلك الحرب دون أي خطة واضحة أو إعداد مسبق. كانت الجيوش تحت إمرة الجيش الأردني، الذي كان بدوره تحت قيادة جنرال بريطاني. لم يكن العرب فقط خاضعين للاستعمار، بل خاضوا الحرب تحت قيادة بريطانية كاملة، تمامًا كما كانت قيادة الجيش المصري تحت سيطرة ضباط بريطانيين، حتى توقيع اتفاقية 1936م.

وفي حرب 1956م، لم يشتبك العرب في قتال حقيقي، حيث انسحبت القوات غرب القناة، وتدخلت التوازنات الدولية لردع العدوان وإجبار المعتدين على الانسحاب، مع حصول إسرائيل على امتياز الملاحة الدولية في خليج العقبة ومضايق تيران. أما حرب 1967م، فقد دخلها العرب – كما اعترف الرئيس الراحل عبدالناصر – بقرارات ارتكزت على حسابات خاطئة وقراءات مشوشة للواقع. وأخيرًا، حرب 1973م كانت خاتمة الحروب النظامية، لم يقصر فيها الجندي العربي، إلا أن السياسة كانت تتجه نحو مسار السلام.

حروب العرب ضد إسرائيل تبدو في معظمها وكأنها أخطاء غير مقصودة أو اندفاعات قسرية، تفتقر إلى الروح الحقيقية للحروب وإلى العزيمة الصادقة، حروب فرضتها الظروف الطارئة ولم ينبعث شررها من تصور قومي راسخ أو رؤية وطنية واضحة أو دوافع عقائدية عميقة. حروب لم يكلف العرب أنفسهم عناء إثبات أنهم أمة حرب وبأس.

مفارقات تاريخية

2 – مسار السلام استغرق خمسة عقود، بدأ مشوبًا بالغرابة ومرفوضًا من أغلب العرب، ثم تحول إلى الوضع الطبيعي الذي لا يفكرون في غيره. هذه هي أخطر خمسين عامًا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث (1973-2023م)، ولا تقل خطورة عن الخمسين عامًا الأولى من تأسيس الحركة الصهيونية (1897م إلى تأسيس الدولة اليهودية عام 1947م).

الخمسون الأولى كانت مخصصة للتأسيس الفعلي بالقوة الغاشمة، والخمسون الأخيرة كانت مكرسة للاعتراف الطوعي بها. وهذا يفسر المفارقة التاريخية العجيبة بين التاريخين الفريدين: السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973م والسابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م. في الأول، كانت إسرائيل هي الجسم الغريب في المنطقة، وفي الثاني، أصبحت المقاومة الفلسطينية هي الغريبة من وجهة نظر الحكومات العربية والإسلامية على الأقل.

لقد نجحت إسرائيل في الخمسين عامًا الأخيرة في تحييد الدول العربية والإسلامية تحييدًا مذهلًا، تحييدًا حول ضمائر السلطات العربية والإسلامية إلى قطع من الخشب الاصطناعي أو البلاستيك الميت، لا تهتز ولا تتأثر ولا تتعاطف. وشعب فلسطين في غزة يتعرض لمحرقة بشعة تهلك البشر والشجر والحجر، والعرب والمسلمون يقفون مكتوفي الأيدي دون أي رد فعل تحسب له إسرائيل أدنى حساب.

محرقة يخجل منها التاريخ، محرقة تشين كل من شهدها ولم ينكرها، محرقة لن ينجو القرن الحادي والعشرون من لعنتها. هذه الخمسون عامًا (1973-2023م)، من خاتمة الحروب إلى الإبادة الجماعية، أعادت العرب والمسلمين في الشرق الأوسط إلى روح القرن التاسع عشر، روح الخنوع الأصيل في مواجهة الغرب وحضارته وعنفه وغطرسته وقوته الجبارة.

صعود وأفول

3 – روح القرن التاسع عشر تعود بعيوبها القاتلة دون أن تحمل شيئًا من مزاياها. ففي نهاية القرن السابع عشر، تحطمت قوة المسلمين العظمى على أسوار فيينا عام 1683م، ثم تلتها هزائم متلاحقة أمام روسيا والنمسا وبولندا، وما عرف باسم "العصبة المسيحية المقدسة"، التي استنزفت قوى العثمانيين على مدى عشرين عامًا تقريبًا (1683م حتى 1699م).

وفي عام 1700م، بدأت روسيا رحلة صعودها الطويل كإمبراطورية أوروبية عظمى، وكان هدفها الأسمى هو محو السلطنة العثمانية وطردها من أوروبا المسيحية. وفي العام نفسه، كان العثمانيون يدركون تمام الإدراك أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التحديث والتطور أو الفناء المحقق. فإن لم يأتِ الفناء على يد الأعداء، فسوف يحل بفعل الزمن. فمع مطلع القرن الثامن عشر، كانت القوى الأوروبية تتحول إلى إمبراطوريات جبارة تطوق العالم، بينما كانت الإمبراطورية العثمانية تتقلص وتتراجع في كل مكان.

بدأ السلطان أحمد الثالث (1673-1736م) في مطلع القرن الثامن عشر مسيرة التحديث، محاولًا الإجابة على سؤال جوهري: "كيف نقتبس من مصادر القوة التي امتلكتها أوروبا فانتصرت علينا وانهزمنا أمامها؟". وتكررت المحاولات في مطلع القرن التاسع عشر مع السلطان سليم الثالث (1761-1808م) ثم السلطان محمود الثاني (1785-1839م). ولكنه كان تحديثًا متعثرًا على مدى قرنين كاملين انتهى بالزوال مع مطلع القرن العشرين.

سقوط المراكز السياسية

4 – لم يقتصر التحديث على مركز الإسلام في إسطنبول، بل شهدت مصر محاولات جادة في عهد محمد علي باشا وذريته من بعده (1805-1882م)، انتهت بالاحتلال البريطاني. وكذلك تونس في عهد الباي محمد الصادق (1813-1882م) والوزير المصلح خير الدين (1820-1890م)، وقد انتهت بالاحتلال الفرنسي عام 1881م.

في المراكز الثلاثة: إسطنبول والقاهرة وتونس، جرت محاولات التحديث على النمط الأوروبي في بناء الجيوش وتطوير التعليم العسكري والمدني واستعارة الدساتير والبرلمانات واستقدام الخبراء الأجانب وفتح البلاد لتدفق المغامرين الأوروبيين والاقتراض من بيوت المال والمرابين والتجار الأجانب، حتى تزامن إفلاس إسطنبول والقاهرة وتونس في وقت متزامن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأعقب الإفلاس احتلال مصر وتونس في عامين متتاليين. وتأخر احتلال ثم زوال المركز الأخير للإسلام في إسطنبول حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، حيث احتلها الأوروبيون ثم أزالوها من الوجود بعد أن عمرت الحضارة الإنسانية ما يقرب من سبعة قرون.

5 – قبل مائة عام أو يزيد قليلًا، سقط المركز السياسي الأخير للإسلام السني، وسقطت معه الحضارة الإسلامية ذاتها. وصدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، ووضعت بلاد العرب تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني بموافقة أميركا والعالم الأوروبي. ثم تدفقت قوافل الهجرة اليهودية من أصقاع العالم إلى فلسطين، وها نحن اليوم نشهد الإبادة الجماعية لآخر معاقل المقاومة الفلسطينية، مع تهجير جديد لمن يمكن تهجيره، تحت قصف النيران لمن بقي من أهل فلسطين الصامدين.

هذا هو السياق التاريخي المأساوي الذي تجري فيه فصول المحارق والمذابح والإبادة الصهيونية – الصليبية في شتاء 2023-2024م. فلسطين لا تجد صديقًا ولا صاحبًا ولا شقيقًا ولا حليفًا، متروكة لإسرائيل تفعل بها ما تشاء، وأهلها متروكون لعدوهم ينكل بهم كيفما يريد. يحدث كل ذلك بينما عواصم العروبة والإسلام تشاهد فصول الإبادة وكأنها لا وجود لها، وكأنها لا تعنيها من قريب أو بعيد.

انهيار فكري وروحي

6 – عدنا، أو نحن عُدنا، إلى روح القرن التاسع عشر، أي إلى سقوط المناعة الذهنية والروحية والفكرية، وإلى الاستسلام الطوعي للقوة الصهيونية – الصليبية، مع فارق جوهري: في القرن التاسع عشر كنا ندرك أن الغرب يمثل خطرًا وجوديًا علينا، وكانت أهداف التحديث آنذاك تهدف إلى اكتساب مصادر القوة اللازمة لمواجهة هذا الخطر الداهم.

العثمانيون كانوا على وعي كامل بذلك، ومحمد علي باشا وذريته كانوا على دراية تامة به، وبايات تونس كانوا على بينة من ذلك. الكل كان لديه إدراك وثيق بأن الخطر يزحف نحوه ويوشك أن يحل به، فلا مفر من الاستعداد لمواجهته. ولكن روح القرن التاسع عشر التي نعيشها الآن هي التي تدفعنا طوعًا إلى الانضواء تحت الهيمنة الأميركية في سقف العالم، ثم تحت السيطرة الإسرائيلية في سقف المنطقة، لحظة فريدة من الهزيمتين السياسية والحضارية، لحظة عدمية نختار فيها الحياة تحت ظلال العدو، فنفقد الذات والهوية والملامح والوجود، نعيش حالة مشوهة من الخنوثة والتخنث السياسي والحضاري بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى.

7 – في مثل هذا السياق، سياق السقوط المدوي في قاع البئر، نفقد القدرة على التمييز الصائب، ونسيء حسن الاختيار، فنضل الطريق القويم، ونتساءل: من المسؤول عن حرب الإبادة ضد غزة وأهلها؟ ثم نجيب ببساطة بأن المقاومة هي المسؤولة!

هذه – بالضبط – هي روح القرن التاسع عشر، هي روح الهزيمة التي ادعت أن استفزازات المماليك للتجار الفرنسيين في القاهرة هي السبب في غزو نابليون لمصر عام 1798م، وليس أن الفرنسيين، منذ فشل حملة لويس التاسع عام 1250م، لم يتوقفوا عن التفكير مليًا في العودة إلى احتلال مصر، وقد ازدهرت هذه الفكرة في عهد لويس الرابع عشر (1638-1715م).

وبالمثل، الزعم بأن الثورة العرابية عام 1881م هي السبب المباشر في احتلال بريطانيا لمصر، وليس أن بريطانيا بذلت جهودًا مضنية على مدى القرن التاسع عشر بأكمله لاحتلال مصر والسيطرة عليها. كذلك الزعم بأن إهانة داي الجزائر لقنصل فرنسا عام 1827 هي السبب الرئيسي في احتلال فرنسا للجزائر عام 1830م، وليس أن الجزائر كانت هدفًا استراتيجيًا لكافة القوى الأوروبية منذ مطلع القرن السادس عشر، ولهذا السبب تحديدًا دخلت تحت الحماية العثمانية عام 1520م.

كذلك القول بأن عدم قدرة باي تونس على حماية الحدود مع الجزائر – التي تحولت إلى مستعمرة فرنسية – هو السبب الجوهري في احتلال تونس عام 1881م، وليس أن فرنسا خططت لاحتلال تونس بالتزامن مع احتلالها للجزائر قبل ذلك بخمسين عامًا.

تزييف الوعي

8 – في القرن التاسع عشر، وُجد منا وبيننا من استقبل المستعمرين الغزاة استقبال الفاتحين المنتصرين، كما وُجد من تعاون معهم وعمل تحت إمرتهم وباع نفسه لهم بثمن بخس، لكن ذلك كان بمثابة الاستثناء النادر، حتى ولو شغل هؤلاء مواقع نفوذ وسلطة مهمة. كانت الأغلبية الساحقة تحتفظ بوعي سليم بأن المستعمرين أعداء غاصبون لا حق لهم في بلادنا، وأنه من المستحيل أن يكونوا قد جاءوا – كما يزعمون زورًا – لخيرنا وتقدمنا. هذه الأغلبية سليمة الفطرة ومستقيمة الطباع، رغم شيوع الأمية آنذاك، كانت هي وقود حركات المقاومة الباسلة التي واجهت الاستعمار لحظة دخوله، ثم ناصبته العداء عبر الثورات العارمة حين استقر به المقام، ثم جاهدته بكل ما أوتيت من قوة حتى طردته شر طردة وظفرت بالحرية والاستقلال.

9 – ولكن بعد تدجين الوعي وتزييف الفهم في العقود الخمسة الأخيرة، باتت فكرة المقاومة محل إدانة وتنفير وتحقير وازدراء، بينما أصبحت فكرة التطبع والتكيف والتطبيع والتقرب والتحالف مع العدو هي جوهر السياسة في العواصم العربية والإسلامية.

هذا الوعي المزيف أشد خطرًا على المقاومة الفلسطينية من الإبادة الصهيونية نفسها. فلولا استقرار هذا الوعي المدجن وتغلغله في النفوس وتسربه إلى الضمائر، لاستحال على الصهيونية ومعها أميركا وأوروبا أن تجرؤ على هذه الإبادة الممنهجة على مهل وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع. هذا الوعي الزائف – الذي يرى في التطبيع خيرًا وفي المقاومة شرًا – هو وقود الإبادة الصهيونية، وهو أيضًا الحصار الأشد على المقاومة الفلسطينية وعزلها وتجريدها من السند الأخلاقي والمدد المعنوي والعطف الأخوي، سواء على الصعيد العربي أو الإسلامي.

10 – بكل يقين، إسرائيل انهزمت شر هزيمة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، مثلما انهزمت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973م. وبكل يقين أيضًا، بعد السادس من أكتوبر/تشرين الأول، كانت مصر في حرب مع أميركا وليس إسرائيل فقط. وبالمثل، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت المقاومة وما زالت – حتى تاريخ كتابة هذه السطور – في حرب ضروس مع أميركا والغرب بأكمله، وليس مع إسرائيل وحدها.

وكما لم تكن مصر مسؤولة عن حرب أكتوبر/تشرين الأول الأولى، فإن المقاومة الفلسطينية ليست مسؤولة عن حرب أكتوبر/تشرين الأول الأخيرة.

أما الإبادة الجماعية، بمعنى إخلاء فلسطين التاريخية من كل ما يمكن إخلاؤه من أهلها على مراحل، وحسبما تسمح الظروف، فهذه خطة قديمة خبيثة ليست وليدة انتصار المقاومة وهزيمة العدو في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة